سورة الحجر - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


قوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} يعني: كفار مكة {فظلُّوا فيه يعرُجون} أي: يصعدون، يقال: ظل يفعل كذا: إِذا فعله بالنهار.
وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس، والضحاك، فالمعنى: لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه، لما آمنوا به.
والثاني: أنهم المشركون، قاله الحسن، وقتادة، فيكون المعنى: لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء، لم يستشعروا إِلا الكفر، لعنادهم.
قوله تعالى: {لقالوا إِنما سُكرت أبصارنا} قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير، وعبد الوارث بتخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين متقارب، والمعنى: حُبستْ، من قولهم: سَكَرَت الريح، إِذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء: معنى {سُكِرَتْ} بالتخفيف، مأخوذ من سُكْر الشراب، يعني: أن الأبصار حارت، ووقع بها من فساد النظر مثل مايقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل. قال ابن الأنباري: إِذا كان هذا كان معنى التخفيف، فسُكِّرت، بالتشديد، يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة. وقال أبو عبيد: {سُكِّرت} بالتشديد، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري. وقال الزجاج: {سُكِّرت} بالتشديد، فسروها: أُغشيت، {وسُكِرَتْ} بالتخفيف: تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر، والعرب تقول: سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ: إِذا سكنت. وروى العوفي عن ابن عباس: {إِنما سُكرت أبصارنا} قال: أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا، وإِنما سُحِرْنا. وقال مجاهد: {سُكِّرت} سُدَّت بالسِّحر، فيتماثل لأبصارنا غيرُ ما ترى.


قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} في البروج ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بروج الشمس والقمر، أي: منازلهما، قاله ابن عباس، وأبوعبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأسماؤها: الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت.
والثاني: أنها قصور، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال عطية: هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة: أصل البروج: الحصون.
والثالث: أنها الكواكب، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. قال أبو صالح: هي النجوم العِظام. قال قتادة: سُميت بروجاً، لظهورها.
قوله تعالى: {وزيَّنَّاها} أي: حسَّنّاها بالكواكب.
وفي المراد بالناظرين قولان. أحدهما: أنهم المبصرون. والثاني: المعتبِرون.
قوله تعالى: {وحفِظناها من كل شيطان رجيم} أي: حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً، ثم يتبعه الشهاب. والرجيم مشروح في [آل عمران: 36].
واختلف العلماء: هل كانت الشياطين تُرمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنها لم تُرْمَ حتى بُعث صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى: مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد أخرج في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب»، وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. قال الزجاج: ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضَّة، فلما حدثت بعد مولد نبينا صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذِكرها، فقال ذو الرُّمَّة:
كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ *** مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ
والثاني: أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فروى مسلم في صحيحه من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه، إِذ رمي بنجم، فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم، قال: فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً، سبَّح حملة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملةَ العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء، وتخطف الجن ويُرمَون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون».
وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت لا تُحجب عن السموات، فلما وُلد عيسى، مُنعتْ من ثلاث سموات، فلما وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُنعوا من السموات كلِّها. وقال الزهري: قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله، ولكنها غُلِّظت حين بُعث صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب ابن قتيبة، قال: وعلى هذا وجدنا الشعر القديم، قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي:
والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها *** يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ
وقال أوس بن حَجَر، وهو جاهلي:
فانقض كالدِّرِّيء يتبعه *** نقع يثور تخالهُ طُنُبا
قوله تعالى: {إلا من استرق السمع} أي: اختطف ما سمعه من كلام الملائكة. قال ابن فارس: استرق السمع: إِذا سمع مستخفياً. {فأتبعه} أي: لحقه {شهاب مبين} قال ابن قتيبة: كوكب مضيء. وقيل: {مبين} بمعنى: ظاهر يراه أهل الأرض. وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض، فأما وحي الله عز وجل، فقد صانه عنهم.
واختلفوا، هل يَقتل الشهاب، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه يُحرق ويخبِّل ولا يقتُل، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنه يقتُل، قاله الحسن. فعلى هذا القول، هل يُقتَل الشيطان قبل أن يخبِر بما سمع، فيه قولان:
أحدهما: أنه يُقْتَل قبل ذلك، فعلى هذا، لاتصل أخبار السماء إِلى غير الأنبياء. قال ابن عباس: ولذلك انقطعت الكِهانة.
والثاني: أنه يُقتَل بعد إِلقائه ما سمع إِلى غيره من الجن، ولذلك يعودون إِلى الاستراق، ولو لم يصِل، لقطعوا الاستراق.


قوله تعالى: {والأرضَ مددناها} أي: بسطناها على وجه الماء {وألقينا فيها رواسي} وهي الجبال الثوابت {وأنبتنا فيها} في المشار إِليها قولان:
أحدهما: أنها الأرض، قاله الأكثرون.
والثاني: الجبال، قاله الفراء.
وفي قوله: {ومن كل شيء موزون} قولان:
أحدهما: أن الموزون: المعلوم، رواه العَوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير، والضحاك. وقال مجاهد، وعكرمة في آخرين: الموزون: المقدور. فعلى هذا يكون المعنى: معلومَ القَدْر كأنه قد وُزِن، لأن أهل الدنيا لمَّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القَدْر عنده بأنه موزون. وقال الزجاج: المعنى: أنه جرى على وَزْنٍ من قَدَر الله تعالى، لا يجاوز ما قدَّره الله تعالى عليه، ولا يستطيع خَلْقٌ زيادةً فيه ولا نُقصاناً.
والثاني: أنه عنى به الشيء الذي يُوزَن كالذهب، والفضة، والرصاص، والحديد، والكُحل، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعكرمة، وابن زيد، وابن السائب، واختاره الفراء.
قوله تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش} في المشار إِليها قولان:
أحدهما: أنها الأرض.
والثاني: أنها الأشياء التي أَنبتت. والمعايش جمع معيشة. والمعنى: جعلنا لكم فيها أرزاقاً تعيشون بها.
وفي قوله تعالى: {ومن لستم له برازقين} أربعة أقوال:
أحدها: أنه الدواب والأنعام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثاني: الوحوش، رواه منصور عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: الوحش، والطير، والسباع، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم.
والثالث: العبيد والإِماء، قاله الفراء.
والرابع: العبيد، والأنعام، والدواب، قاله الزجاج. قال الفراء: و{مَنْ} في موضع نصب، فالمعنى: جعلنا لكم فيها المعايش، والعبيد، والإِماء. ويقال: إِنها في موضع خفض، فالمعنى: جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين.
وقال الزجاج: المعنى: جعلنا لكم الدواب، والعبيد، وكُفيتم مؤونة أرزاقها.
فإن قيل: كيف قلتم: إن {مَنْ} هاهنا للوحوش والدواب، وإِنما تكون لمن يعقل؟ فالجواب: أنه لما وُصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصَف به الناسُ، فيقال: للآدمي معاش، ولا يقال: للفرس معاش، جرت مجرى الناس، كما قال: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل 18]، وقال: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف 4]، وقال: {كلٌّ في فلكٍ يسبَحون} [الأنبياء: 33]، وإِن قلنا: أُريدَ به العبيد، والوحوش، فإنه إِذا اجتمع الناس وغيرهم، غُلِّب الناس على غيرهم، لفضيلة العقل والتمييز.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8